الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
حدّثني من حدّث فقال : مثلنا ومثل اليهود اليوم واستباحتهم للأقصى واستخفافهم بنا وجرأتهم علينا كمثل اللص وصاحب الدار.!
قلتُ: وما مثلهما؟
قال: زعموا أن لصاً تسور داراً في يوم مبصر فجمع كل ما فيها من أثاث ومتاع فلم يشفِ غليله ما أخذ من وسائد وطنافس واستصغر نفسه واحتقرها إذ كيف تمتد إلى حطام المتاع ورثيثه وكان ذا همة في اللصوصية والخبث فقال في نفسه(لا تفرح بالقليل وترضى بالدون كالكلب الذي يصيب عظما يابسا فيفرح به ). ثم استظهر القول المشهور الذي يقول: (إذا أردت معرفة قدر السارق وعلو همته فانظر لمغنمه).
فعزم على طرد أهلها وادعائها فكان ما أراد.!
فبينا هو كذلك إذ قدم رب الدار وكان غائبا سحابة يومه ذلك سعيا للرزق برا بأبويه وإحسانا بأهله فكاد عقله أن يطيش حين رأى أباه وأمه وأهله ملقين في طريق السابلة في منظر يرقق الحجر ويحرك الجماد ويستنزف الدمع العصي.!
وامتنع بنو عمه من مساعدته حذار اللص وخوف بطشه واجتنابا لعقاب القاضي وظلمه فقد تناهى إلى سمعهم أن القاضي يحبه ويجله وأن سبب المودة بينهما وثيق.
واعتلوا فقالوا:الرأي أن نتعامى عما حصل ونتجاهل ما حدث حتى لا يلحق بنا ضر ولا يمسسنا سوء وإن من الحكمة في مثل هذه الأمور التروي وإنعام النظر والتفكر في العاقبة وترك العجلة فقد قيل : (إن في العجلة الندامة).
فصاح رب الدار بهم والدمع يشتبك بخديه: ما هذا الجبن والخور أين شجاعتكم أين غيرتكم ألستم سلائل الأبطال وأبناء القواد وأحفاد البهاليل.!أتغلبون وأنتم ثلة.أتذلون وأنتم أعزة هلموا إليه لنفجأه ونوقع به.!
فنهره أكبرهم وقال:هذا والله الرأي الفطير والحماقة التي أعيت الأطباء وصدق القائل:
لكل داء دواء يستطاب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
أيها الأخرق:ألم تعلم أنه يأوي إلى ركن شديد وأنه خدين القاضي وخليله ومسه بسوء كمس القاضي أو أشد ونحن قوم لا طاقة لنا بالقاضي وجنوده:
والخصم لا ترتجى النجاة له *** يوما إذا كان خصمه القاضي
ومالنا ولمعاداة القاضي ومناوأته وإن(من سالم الناس ربح السلامة ومن تعدى عليهم كسب الندامة) . ثم نحن نعلم شدة بأسنا وقوة بطشنا وأننا من سراة القوم وبقية الرجال الأماجيد ولكن لنحذر مغبة الغرور فقد قالت الحكماء(لا يغتر الأقوياء بفضل قوتهم على الضعفاء). أيها الأنوك: (من ترك رأي ذي النصيحة اتباعا لما يهوى استوخم العاقبة) ثم (لا رأي لمن انفرد برأيه) فاترك الدار بما فيها والحق بنا نواسك ونهبك دارا خيرا منها.
فطال المجلس واختطت الأصوات وتعددت الآراء وكثر الجدل فتنفس الصبح ولم يصطلحوا على شيء.!
فلما استيئس منهم حمل نفسه بنفسه إلى القاضي غضبا أسفا ورفع أمر اللص له.فقال القاضي: إن سمعنا شيوخنا ـ رحمهم الله تعالى ـ يقولون في صفة القاضي الكامل : (ثلاث من كن فيه فليس بكامل وذكروا منها...ولا يسمع شكية من أحد حتى يكون خصمه معه).فاحضر خصمك في مثل وقتنا هذا غدا لأسمع منه واطلع على حجته لأحكم على بينة وأقضي على دلالة. فقال صاحب الدار: وإن رفض المجيء واعتل بعلل واحتال بحيل فما أصنع؟ قال القاضي:إذن فلا تقربن مجلسي بعد يومك هذا وإياك ثم إياك أن تأتي لوحدك فإن فعلت فإنك إذن سارق للوقت مضيع للعمر.
وبين ظهري ذلك(1) كان اللص داخل الدار آمنا مطمئنا مضطجعا على الزرابي الوثيرة يشرب الماء النمير ويأكل الخبز الدافئ. وبات صاحبها في الخارج ذليلا كسيرا مخذولا محسورا قد علته كآبة وحزن لم يبرح مكانه ينتظر خروج اللص فطال انتظاره حتى أملق فأضحى من أهل الزكاة يتقبل الصدقة ويفرح بالأعطية. فمضى حين من الدهر وهو يسأل اللص المثول أمام القاضي وبعد لأي وجهد أنعَمَ له(2) مكرهاً.
وضمهما مجلس القضاء:
فقال صاحب الدار بعد أن أُذن له: أيها القاضي:هذا اللص الذي بين يديكم قد علا ظهر داري في رائعة النهار وأمام أعين الناس فلم يخيفه بصر الشمس ولا بصر الأعين وزاد على جريرته جريرة أخرى أن ادعاها لنفسه ظلما وزورا بعد أن نبذ أهلها في العراء.
وهي التي ورثتها كابرا عن كابر بعد أن شيد آبائي ـ رحمهم الله تعالىـ جدرانها وأسسوا بنيانها ورفعوا قواعدها فأفنوا فيها الوقت والمال فوصلت إلي بعد سلالة متصلة من بهاليل القوم فبقيت زمنا محتميا بجدرانها الأربعة من حوادث الدهر وصروف الليالي.فكان حبها يسري في دمي ويخالط جسمي وأنا أقوم على أبوين عاجزين وزوجة ضعيفة وأبناء صغار أكدح بياض يومي كله.
فلما انتهى الكلام بصاحب الدار إلى هنا قال القاضي: حسبك. برهانك واضح و دليلك بيّن ولا حاجة لي بسيرتك ودقائق حياتك.وقد كان علمائنا ـ رحمهم الله تعالى ـ يكرهون من المرء كثرت كلامه عن نفسه.(والسكوت أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع )
والتفت إلى اللص باسما وقال :ما تقول فيما قال.
قال اللص:إذا أذنتم لي.
قال القاضي :تفضل قل ما عندك وألقِ ما لديك.
فقال اللص: أيها القاضي قد تناهى إليَّ خبر فضلكم ونبأ علمكم وطبّق الأرض عدلكم وإنصافكم وملأ الخوافق بركم وإحسانكم.
أيها القاضي : لن أطنب في الكلام ولن أطيل في الحديث (فمن قل كلامه حُمد عقله).فعندي بينة أفصح من لسان العربي وأوضح من آية النهار.
قال القاضي : وما هي؟
قال اللص: خرجت من داري قبل أن أمثل بين يديكم لبعض حاجتي فأصبته قد بسط لسانه علي بألوان الشتم وصنوف السب فقذفني باللصوصية والسرقة والغصب فوالله أيها القاضي لقد شق علي ذلك واغتممت فقد غَنِيتُ في هذا البيت ولبثت دهرا في هذه الدار دون أن ألقى أدنى أذى ودون أن يعترض علي حي وأنا رجل فقير سيئ الحال لا أملك من حطام الدنيا غيرها. وفوق ذلك غريب لا شوكة لي ولا عشيرة فهل هناك أبين من هذا وأوضح لإبطال دعواه ودحض كذبته.!
فغصته العبرة حين انتهى به الحديث إلى هنا ثم بكى وأبكى فأخذت الحاضرين الرأفة عليه ومالت قلوبهم إليه.
فقال القاضي: هل من سبيل إلى حل نرجع به الحق لصاحبه؟
قال اللص:أيها القاضي :إن من شيمي فك العاني وإعانة المنكوب وغوث الملهوف ومساعدة المكروب وبذل المعروف على هذا نشأت وعلى هذا تربيت وإن (أحسن العفو ما كان عن عظيم جرم).فأشهد الله أني قد عفوت عن هذا الدعي وغفرت له إيذاءه وشاطرته داري ومالي.
فكبر القاضي وأكبر صنيع اللص وصوب رأيه وأجابه إليه وتلا قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
فتميز رب الدار من الغيظ وسخط على اللص وهم أن يبطش به ويذيقه السوء فتعاوره الجنود وأمسكوا به وغلوه بالسلاسل والحبال.
فاستشاط القاضي وقال: أتقطع يدا مدت إليك؟!...أ تسيء لمن أحسن إليك؟!... أما قلت كما قال المهاجرون للأنصار...أما سكت حين حَصِرت عن قول الخير.! ألا ما أعجب أمرك أو ليس (الإحسان يقطع اللسان) ما أراني أعرف منك إلا طول اللسان وكفران الإحسان فأمر به أن يلقى في السجن هو وأهله بعد أن يذيقوهم أشد العذاب وأنكأ العقاب. فلما مضوا به فيما أمر اعتذر للص وقال له :لا يصدنك فعل هذا المأفون عن الخير وإرادته للناس.
قال اللص: (إن المرء جدير أن يصنع المعروف إلى كل أحد فإنه إن ضاع المعروف عند الناس لا يضيع عند الله ). قال القاضي : لقد نزل بهذا الكفور ما يكفيه ويؤدب غيره فانقلب إلى دارك وإن سابك أحد أو شاتمك فأرسل إلينا نمدك بالجنود ونعضدك بالرجال.