تعلم كيف تقصر وتجمع بين الصلاتين
إن التيسير ورفع الحرج من قواعد الدين ومقررات الشريعة، فاتباع الشرع والالتزام به سلوك لسبيل التيسير، ولقد وقع خلق كثيرون في العنت بسبب جهلهم للرخص، و من بين الرخص التي شرعها الله لنا، وترفع عن الكثير الحرج في تأدية الصلاة ، الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر وكذا القصر. وسأبين ذلك إن شاء الله فأقول:
أولا : الجمع بين الصلاتين في السفر
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى ينزل للعصر ، وفي المغرب مثل ذلك ؛ إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإذا ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخّر المغرب حتى ينزل للعِشاء ثم جمع بينهما. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وفي رواية لمسلم قال معاذ : خرجنا مع رسول الله عام غزوة تبوك ، فكان يجمع الصلاة ، فصلى الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، حتى إذا كان يوما أخّر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل ، ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعا.
*ما هي المسافة التي تُبيح الترخّص ؟
لم يرِد في كتاب الله ولا في سنة نبيه تحديد مسافة السفر.
فالفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقا مجموع الفتاوى ( 24 / 34 ) باختصار.
*هل الجمع إلا لمن جدَّ به السير ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ظاهر حديث معاذ أنه كان نازلا في خيمة في السفر ، وأنه أخّر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ، فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنـزل ، وأما السائر فلا يقال دخل وخرج بل نزل وركب." مجموع الفتاوى ( 24 / 64 )
قال العراقي : " وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْجَـدِّ فِي السَّفَرِ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِر."ِ طرح التثريب ( 3 / 752 )
*متى يجوز الجمـع للمسافر ؟
يجوز للمسافر الترخّص برخص السّفر إذا فارق عامِر قريته .
فعن أنس رضي الله عنه قال : صليت الظهر مع النبي بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين. رواه البخاري ومسلم
قال الإمام مالك : لا يَقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية، ولا يتم حتى يدخلها أو يقاربها. الاستذكار( 6 / 78 )
قال ابن تيمية: " والمسافر لابد أن يسفر أي يخرج إلى الصحراء. فإن لفظ: [السفر] يدل على ذلك. يقال: سَفَرَت المرأة عن وجهها إذا كشفته. فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن، لا يكون مسافرًا. "
*هل يُشترط للجمع نِـيّـة عند افتتاح الأولى ؟
لا يُشترط للجمع نِيّـة عند افتتاح الأولى .
قال ابن تيمية : " والنبي لما كان يصلى بأصحابه جمعًا وقصرًا، لم يكن يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلى ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلى العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر، ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم. وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين، ولم يأمرهم بنية قصر ".
مسألة: سئل ابن تيمية: هل الجمع بين الصلاتين في السفر أفضل أم القصر؟
فأجاب: الحمد لله، بل فعل كل صلاة في وقتها أفضل، إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع، فإن غالب صلاة النبي التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها. وإنما كان الجمع منه مرات قليلة.
وقال: وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر، كالقصر بل يفعل للحاجة، سواء كان في السفر أو الحضر، فإنه قد جمع ـ أيضاً ـ في الحضر لئلا يحرج أمته. فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع، سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشق النزول عليه، أو كان مع نزوله لحاجة أخري، مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر، ووقت العشاء، فينزل وقت الظهر وهو تعبان، سهران، جائع، محتاج إلى راحة وأكل ونوم، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع.
مسألة: وأما النازل أياماً في قرية أو مصر ـ وهو في ذلك كاهل المصر ـ فهذا ـ وإن كان يقصر لأنه مسافر ـ فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم، ولا يأكل الميتة. فهذه الأمور أبيحت للحاجة، ولا حاجة به إلى ذلك، بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر.
مسألة: هل الأولى التقديم أم تأخير:يقول ابن تيمية: فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة، فقد يكون هذا أفضل، وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء.
ثانيا : تقصير الصلاة
سئل شيخ الإسلام:
هل القصر في السفر سنة أو عزيمة؟ وعن صحة الحديث الذي رواه الشافعي عن إبراهيم ابن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: كل ذلك قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم.
فأجاب:
أما القصر في السفر: فهو سنة النبي وسنة خلفائه الراشدين؛ فإن النبي لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر، وكذلك عثمان في السنة الأولى من خلافته،..... وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصـلاة الفطـر ركعتان، وصـلاة الأضحى ركعتان، تمام غـير قصر على لسان نبيكم.
وأيضًا، فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي لم يصل في السفر إلا ركعتين، ولم ينقل عنـه أحد أنه صلى أربعًا قط، ولكن الثابت عنه أن صام في السفر وأفطر، وكان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر.
وأما القصر: فكل الصحابة كانوا يقصرون، منهم أهل مكة، وغير أهل مكة بمنى وعرفة وغيرهما. اهـ
وقال: والحديث الذي يروى عن عائشة: أنها أتمت معه وأفطرت، حديث ضعيف.
*هل يجب النية عند القصر:
قال ابن تيمية: "ولم ينقل قط أحد عن النبي أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلى خلفهم، مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام؛ فإن النبي لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله، كلهم خرجوا يحجون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر؛ إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد، لا سيما النساء صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر، وكذلك جمع بهم بعرفة، ولم يقل لهم: إني أريد أن أصلى العصر بعد الظهر حتى صلاها. "
*مسافة القصر:
قال ابن تيمية: " والقصر معلق بالسفر وجودًا وعدمًا، فلا يصلي ركعتين إلا مسافر، وكل مسافر يصلي ركعتين، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه? ـ: صلاة المسافر ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير نقص. أي: غير قصر على لسان نبيكم . وفي الصحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر.
وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كل سفر؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرًا كان أو طويلا، كما قصر أهل مكة خلف النبي بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ.
وأيضًا، فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولا تيمم. ولم يحد النبي مسافة القصر بحد، لا زماني، ولا مكاني. والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة، ليس على شيء منها حجة، وهي متناقضة، ولا يمكن أن يحد ذلك بحد صحيح.
فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار، وحركة المسافر تختلف. والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع ، ويقيد ما قيده، فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة، والمسح على الخفين."
مدة القصر: سئل شيخ الإسلام عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين. فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم مـن يوجب القصر، والصحيح أن كلاهما سائغ. فمن قصر لا يُنكر عليه، ومن أتم لا يُنكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل. وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة ـ أيضًا ـ بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر. كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها فأقام سنين يقصر الصلاة.
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما أقام النبي وأصحابه بعد فتح مكة قريبًا من عشرين يومًا يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان. وكان النبي لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فما دام المسافر مسافرًا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورًا. والله أعلم.
ثالثا : الجمع بين الصلاتين للمقيم
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : صلى رسول الله الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير : فسألت سعيدا : لِـمَ فَعَلَ ذلك ؟ فقال : سألتُ ابن عباس كما سألتني ، فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته .
وفي رواية له قال : جمع رسول الله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر .
فمنطوق حديث ابن عباس أن النبي جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير عُـذر .
ومفهومه أن الخوف والمطر والسفر أعذار تُبيح الجمع.
قال ابن تيمية: "فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا، ليس نفيا منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضاً.
ولو لم ينقل أنه جمع بها، فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر،وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر.
فالأحاديث كلها تـدل على أنـه جمـع في الوقت الواحـد لرفـع الحرج عـن أمتـه، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه اللّه عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة، وأمثال ذلك من الصور."
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن صلاة الجمع في المطر بين العشاءين. هل يجوز من البرد الشديد أو الريح الشديدة أم لا يجوز إلا من المطر خاصة؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، يجوز الجمع بين العشاءين للمطر، والريح الشديدة الباردة، والوحل الشديد. وهذا أصح قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما. والله أعلم.
[b]